وخرج عزير عليه السلام ينظر الى الطريق العام فوجد الناس تأتيه من بعيد وهم يتكلمون رائحين وغادين, ورأى المدينة قد عمّرت, ورأى في المدينة أنوارا خافتة تظهر مع طلائع الظلام التي أقبلت مع الغروب, مما جعل العزير يشعر بالفرح والسرور ويشكر الله على نعمته, ويتيقن كما كان أن الله على كل شيء قدير.
مضى العزير الى المدينة يتطلع الى أخبارها وكيف أصبحت بعد مائة عام, وماذا يفعل الناس:
أهم سعداء أم بهم همّ وما هي أخبار أسرته؟
هل هناك أحد منهم على قيد الحياة؟
دخل عزير المدينة وفي رأسه مئات الأسئلة يريد اجابة عليها, فاذا به يرى مبان جديدة, رائعة التقسيم والبنيان على غير ما كان يرى منذ مائة عام, وشوارع وخططا غير التي كان بعهدها في القديم, وأخذ ينظر هنا وهناك, ويتنقل في طرقاتها وشوارعها بحثا عن منزله القديم الذي تركه منذ أكثر من مائة وعشرين سنة, ولما وجد نفسه في مكان جديد عليه وقد تغيّر تماما عما عهده قبل مائة عام, هداه فكره الى أن يسأل الناس المارّة في الشوارع.
تحدّث عزير عليه السلام وقال لأحدهم:
أين دار العزير؟ فأجابه الرجل:لا نعرف دارا للعزير,
ولكن يوجد هنا ديار أبناء العزير! انظر الى هذه الدور المترصّة, انها دور أبناء العزير.
مضى العزير الى المكان حتى جاء الى دور أبنائه,
وعند أوّل باب من أبوابها طرق الباب طرقا خفيفا,
فسمع صوتا من الداخل يقول: من الطارق؟ من بالباب؟ فأجاب على الفور: انا العزير!!
فقال الفتى الذي ردّ عليه: ماذا تقول؟ العزير! اتسخر منا يا رجل؟
فقال العزير: افتح الباب يا بني وستعرف أنني لا أكذب عليك ولا أسخر منك.
ففتح الفتى الباب, ونظر الى الرجل في دهشة واستغراب, ثم قال: لقد فقدنا العزير منذ مائة عام على ما سمعت من أبي, وكان سنه يومئذ أربعين سنة, فلو كان حيا لوجب أن تكون سنه الآن مائة وأربعين سنة, وأنا أراك الآن في سن الأربعين, انّك أصغر من أحفاده, فكيف يمكنني التصديق بأنك أنت العزير؟!
سمع الناس الحوار بين العزير وأحد أحفاده فتجمّعوا حوله وأمطروه بالأسئلة,
وكان يجيب بثقة ولسان صدق ويقول لهم:
لقد أماتني الله مائة عام ثم بعثني,
ورأيت بنفسي طعامي لم يتغيّر لونه ولا طعمه وشرابي لم يتبخر ولم يتغيّر وحماري الذي رأيت عظامه تتحرك وتأتي كل واحدة مكانها حتى اكتمل, فكساه الله لحما وعلا صوته ونهق نهيقا شديدا, كل هذا بعد مائة عام وقد ظننتها يوما أو بعض يوم, ولكنّ الله عز وجل أعلمني أنها مائة عام, بعثت بعدها بمشيئة الله, أليس الله على كل شيء قدير؟!
في هذه الأثناء ظهرت عجوز لا ترى أمامها تتوكأ بصعوبة على الحائط مقعدة, ونادت قائلة: أدخلوه الى داخل الدار, فانني أعرف علامة في العزير فان كان هو عرفته بها, فدخل العزير عليه السلام عليها فاذا هي عجوز عمياء قد أهلكها الدهر, فقالت له: أتقول أنك أنت العزير يا هذا؟
قال: نعم.
قالت لقد كان لدى العزير خادمة, وقد تركها وسنها عشرون عاما, أتعرف اسمها؟
قال: نعم اسمها "أشتر" قصص الأنبياء لابن كثير,
وقد تركتها وسنها عشرون عاما, فاذا كانت على قيد الحياة فسنّها الآن مائة وعشرون عاما.
فقالت العجوز: أتعرف أنني أنا "اشتر" خادمة العزير؟ وكان في العزير علامة, فقد كان مستجاب الدعوة فينا, فكان لا يسأل الله شيئا الا استجاب له, فان كنت العزير حقا, فادع الله لي أن يردّ عليّ بصري, وأن يشفي قدمي, فقد صرت مقعدة لا أستطيع المشي والنهوض من شدة الآلام فيهما.
وفي لحظات دعا العزير ربه, ومسح بيده على عينيها, وأخذ بيدها لينهضها وهي مقعدة فاذا بها تنهض على ساقيها, وتبصر أحسن ما يكون الابصار, وتأملت في وجه وقالت: أشهد أنك عزير, اني أراك الآن كما رأيتك آخر مرة شاهدتك فيها منذ مائة عام..
وجاءت عجوز أخرى يقرب عمرها من مائة وأربعين عاما وقالت: وأنا أتعرفني يا عزير؟ فقال: أنت زوجتي ولن أجهلك أبدا.
وكان عند خروجه قد أعطاها خاتمه وقال: لعلك تذكرينني به, وكذلك هي فقد أعطته خاتمها كي يذكرها به, فقالت له: أتذكر ماذا تبادلنا ليلة خروجك؟
قال: تبادلنا خاتمي وخاتمك, فقد أعطيتك خاتمي وقلت لك: لعلك تذكرينني به.. وأعطيتني خاتمك وقلت لي: لعلك تذكرني به.. وها هو ذا خاتمك, وخلعه من اصبعه, وقدّمه لها.
فرحت العجوز زوجة عزير وقالت: وها هو ذا خاتمك يا عزير ولطالما ذكرتك به.
وتجمّع الناس على هذه الأحداث العجيبة التي جرت أمامهم فتكاثروا وجاء غيرهم, حتى ضاقت دار عزير, فوقفوا أمامها يعجبون لهذا الأمر العظيم, وهذه الآية الكبرى التي توالت أمامهم كالحلم, فكلما همّوا بتكذيب كلمة جاء تصديقها بشاهد وموثق, لأن مشيئة الله عز وجل انصرفت كي يكون عزير آية للناس, وذلك لقول الله عز وجل :{ولنجعلك آية للناس}.
في هذه الأثناء خرجت خادمته التي أبصرت واستعادة عافيتها وانصرفت عنها آلام قدميها, مسرعة الى مكان هي تعرف ارتباطه بهذا الأمر وهذه الآية, التي انصرفت مشيئة الله أن يكون عزير بطلها, لقد خرجت الى بني اسرائيل وهم في أنديتهم ومجالسهم, وأخبرتهم بخبر وصوله, وكان على رأس المجلس شيخ وقور أخذ منه الدهر ما أخذ, انه ابن العزير الذي بلغ من العمر عتيّا. لقد بلغ مائة سنة وثماني عشرة, وجلس شيخا في مجلسهم..
وجاءت تصرخ وتقول: هذا عزير قد جاءكم.
فقال ابن العزير الأكبر وقد رفع وجهه وفحص ببصره الضعيف هذه الفتاة: من هذه الجارية؟
فقالت: أنا جارية أبيك عزير.. أنا خادمته " أشتر", لقد جاء أبوك ودعا لي ربه بالشفاء وردّ بصري عليّ فاستجاب الله له كما عرفناه منذ مائة عام, أتدري أن الله أماته مائة عام ثم أحياه وبعثه من جديد!
صمت الشيوخ جميعا وساد المجلس لحظات من الهول والصمت, وهم يسمعون كلاما يظنون أنه لا يصدق, ولكن ها هي جارية عزير ماثلة أمامهم وقد قصّت عليهم حقائق,
فهي " اشتر" وهو اسمها, وعزير كان مستجاب الدعاء كما علموا وتعلموا من الآباء والأجداد, انها حقائق لا تكذب, وعزير خرج من بينهم منذ مائة عام كما تقول أيضا, وهي الآن تدعوهم لرؤيته رؤيا العين, كل هذا دعاهم الى الوقوف فردا فردا والتوجه الى خارج مجلسهم كي يرون بأعينهم ما سمعته آذانهم, وان لم يروه شكّوا في الأمر كله, فلن يصدّق أحد منهم ما سمعه من أشتر تصديقا كاملا الا اذا مضى في طريقه الى دار العزير ورأى بنفسه العزير ماثلا أمامه بهيئته التي فقدت خيالها وملامحها ذاكرتهم, مضى القوم في الطريق الى دار العزير, ولم يتوقف أحد منهم ولم يتحدث أحد منهم الى أحد.
تقدّم ابن العزير الجميع وهو يتكئ على عصاه وقد أهلكته الشيخوخة ولم يسعفه الكبر كي يسرع الخطى أكثر من هذا, لقد بلغ مائة وعشرين عاما, و"أشتر" تقول أن أباه هناك في سن الصبا وهو في سن الأربعين, يا له من أمر يعجب له الانسان المحدود بفكره وقدرته.
وعلى مشارف المنزل وعلى مقربة منه تمعّن ابن العزير ومسح عينيه كي ينقشع عنهما بعض ما تركه الزمن من غمامة, فرأى شابا في الأربعين قد وقف شامخا شديدا عظيم البنية وقد أضاء وجهه نور الايمان وتقوى القلب.
حيّا ابن العزير أباه وهو يتفحّص وجهه وقال في هدوء شديد موجها حديثه الى أبيه العزير: ان لي في أبي علامة.
فقال العزير: وما هي؟
قال الابن الشيخ: شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه.
صمت الابن الشيخ وساد الصمت المكان لحظات, والجميع يتطلع بعينه الى العزير, وظنوا أن الأمر فيه من الكذب, فالأب شاب واقف في شموخ والأبن عجوز لا تكاد رجلاه تحملانه.
صمت عزير عليه السلام قليلا ثم حرّك يديه وكشف لابنه عن كتفه فنظر الابن الى كتف أبيه فوجد الشامة السوداء مثل الهلال على كتفه..
هلل الابن الشيخ وقبّل أباه ورحّب به وقال: انه حقا أبي وأشهد أنه ابي.. وهلل معه بنو اسرائيل جميعا وفرحوا بمجيء العزير ووجوده بينهم.
لكن أحد الأحبار قطع هذا الترحيب بدليل جديد يريد أن يتأكد من خلاله أن هذا الشاب الماثل أمامه الذي مات مائة عام وكان له من العمر أربعين قبلها هو عزير حقا.
قال الحبر: ان لنا نحن بنو اسرائيل في العزير علامة, غير التي شهدها ابنك وشهد أنك أباه.
قال: لم يكن فينا أحد يحفظ التوراة عن ظهر قلب كما حفظها عزير.
فقال العزير في ثقة واعتزاز, وصدق وكبرياء لهؤلاء الناس: وأنا أحفظ التوراة عن ظهر قلب.
قام بعض شيوخ بني اسرائيل وانسحبوا من المجلس وجاؤوا بنسخة من التوراة قديمة كان أحدهم قد خبأها خوفا من بختنصر الذي كان يحرق التوراة أو يريد حرقها, وقالوا لعزير: اقرأ علينا التوراة, ونحن نراجع ان كنت تحفظها أم غير ذلك.
جلس عزير عليه السلام شابا وسط القوم وشرع يقرأ التوراة عن ظهر قلب وهم يراجعون عليه في صحف التوراة, وظل يقرأ ويقرأ وهم يزدادون خشوعا حتى انتهى منها دون أن يخطئ في حرف واحد من حروفها, أو يتردد في آية واحدة من آياتها أو كلماتها.
شهد الجميع بأنه العزير, وفرحوا به, ونظر بعضهم في المجلس فوجد آية عظيمة من آيات الله, لقد جلس العزير في هذا المجلس وفيه بنوه وبنو بنيه وهم شيوخ وقد شاب شعرهم وشابت لحاهم, وقوّست السنون ظهورهم وأحنتها بشدة, بينما يجلس عزير شابا في الأربعين أسود الشعر, قوي البنية, منتصب القامة, فكانت آية عظيمة, وكان عزير عليه السلام آية بما حدث له وحدث معه من مشاهد اختصه الله بها حينما قال له:{ ولنجعلك آية للناس}.
حقا انه آية في موته وهو في سن الأربعين
وآية في بعثه بعد مائة سنة,
ورؤيته مشهد اعادة خلق حماره من جديد والعظام تتحرّك أمامه واللحم يكسو جسم الحمار من جديد,
وطعامه لم يتغيّر, ولم تجففه الشمس ولا الهواء بل ظل طازجا,
وقد جاءت قصة عزير في القرآن الكريم تحكي عن الآية التي جعلت فيه, وأخذت منه درسا وعظة لكي يعلم من لا يعلم أن الله على كل شيء قدير وأنه سبحانه عز وجل قادر على أن يحيي الموتى فهو الذي خلقها, وأماتها, وأنشأها مرّة أخرى, وهو خالق الطعام وقادر على ابقائه مائة عام دون أن يتبخر أو يتخثر أو تفوح رائحته كما يحصل خلال أيام قليلة بين يدي البشر, وهو القادر على خلق حمار عزير بعد أن أماته مائة عام وهو الذي صوّره أمام عبده عزير كي يؤمن الذين في قلوبهم تردد بأن الله على كل شيء قدير, فالخلق خلقه والكون كونه سبحانه وتعالى عز وجل, ليس كمثله شيء, واحد أحد فرد صمد. ونقرأ قصة العزير في سورة البقرة. قال تعالى:
{ أو كالذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت, قال لبثت يوما أو بعض يوم, قال بل لبثت مائة عام فانظر الى طعامك وشرابك لم يتسنّه وانظر الى حمارك ولنجعلك آية للناس, وانظر الى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما, فلمّا تبيّن له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير} البقرة 259.