أول وآخر ما نزل من القرآن
بلغت
عناية الصحابة رضوان الله عليهم بالقرآن الكريم درجة جعلتهم يحيطون علماً
بكل ما يتعلق به من ناحية معرفة زمان ومكان وأسباب نزوله ومعرفة ناسخه
ومنسوخة ومعرفة ما نزل ليلاً وما نزل نهاراً وما نزل صيفاً وما نزل شتاء
وما نزل مشيعاً وما نزل مفرداً وغير هذا من الأوجه التي تؤكد على مزيد
عنايتهم بالقرآن الكريم.
وكان
مما اهتموا بمعرفته من هذه القضايا المتعلقة بالقرآن الكريم ، قضية أولية
وآخرية النزول فتكلموا عن أول ما نزل مطلقاً وآخر ما نزل مطلقا كما تكلموا
عن أوليات وآخريات مقيدة بقضايا وموضوعات بعينها ، وأوردوا في هذا نصوصاً
قد يرى فيها الناظر شيئاً من التعارض غير أن العلماء ـ بما لديهم من قواعد
التوفيق والترجيح بين الأدلة التي يوهم ظاهرها التعارض على الأقل من وجهة
نظر القاريء ـ استطاعوا عرض الفهم الصحيح لهذه النصوص.
وفي هذه الصفحات نستعرض أركان هذه القضية.
يقول الإمام الزركشي عند حديثه عن النوع العاشر "أول ما نزل من القرآن وآخر ما نزل".
فأما أوله : ففي صحيح البخاري من حديث بدء الوحي أن أول ما نزل عليه صلى الله عليه وسلم "اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ " ثم المدثر.
ونحن
نورد هنا نص الرواية التي أشار إليها الإمام الزركشي. فعن عائشة رضي الله
عنها قالت "أول ما بدى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا
الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه
الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ثم يرجع
إلى خديجة رضي الله عنها فتزوده لمثلها حتى فجأه الحق وهو في غار حراء
فجاءه الملك فيه فقال اقرأ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقلت :
ما أنا بقاريء ، فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت
ما أنا بقاريء ، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ
فقلت ما أنا بقاريء. فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال (اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) حتى بلغ (مَا لَمْ يَعْلَمْ)
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره ..." الخ الحديث ، وقد
اكتفينا بمحل الشاهد لطول الحديث ، وهو عند البخاري في باب بدء الوحي وعند
مسلم في كتاب الإيمان.
وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث عائشة رضي الله عنها صريحاً. قالت : أول سورة نزلت من القرآن " اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ".
وصحح
الطبراني في الكبير بسنده عن أبي رجاء العطاردي قال "كان أبو موسى يقرئنا
فيجلسنا حلقاً وعليه ثوبان أبيضان ، فإذا تلا هذه السورة " اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" قال هذه أول سورة نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم.
غير أن هناك رواية في البخاري ومسلم تقول بأن "يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ " أول ما نزل، وهذا نصها.
عن أبي سلمة بن عبدالرحمن قال : سألت جابر بن عبدالله : أي القرآن أنزل قبل ؟ قال : " يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ " ، قلت : أو " اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ "
؟ قال : أحدثكم ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني جاورت
بحراء فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي فنظرت أمامي وخلفي وعن يمين
وشمالي ثم نظرت إلى السماء فإذا هو يعني جبريل ـ فأخذتني رجفة فأتيت خديجة
فأمرتهم فدثروني ، فأنزل الله " يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ ".
وظاهر
الروايتين يشير إلى وجود تعارض بينهما في إثبات الأولية ، غير أن الإمام
الزركشي رحمه الله تعالى ينفي هذا التعارض بنقل إمكان الجمع بين الروايتين
فيقول "وجمع بعضهم بينهما بأن جابراً سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر
قصه بدء الوحي فسمع آخرها ولم يسمع أولها فتوهم أنها أول ما نزل ، وليس
كذلك.
ويرى الشيخ الزرقاني
أن : "هذه الرواية ـ يقصد رواية جابر ـ ليست نصا فيما نحن بسبيلة من إثبات
أول ما نزل من القرآن إطلاقاً ، بل تحتمل أن تكون حديثا عما نزل بعد فترة
الوحي ، وذلك هو الظاهر من رواية أخرى رواها الشيخان أيضا عن أبي سلمة عن
جابر : "فبينما أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري قِبَل السماء
فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض فجثثت حتى
هويت إلى الأرض فجئت أهلي فقلت زملوني فزملوني فأنزل الله تعالى " يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ".
ولعل
جابراً كما يقول الشيخ مناع القطان ـ أجاب عن أول سورة نزلت كاملة قبل
نزول تمام (اقرأ) هذا ، ورواية السيدة عائشة رضي الله عنها التي تثبت
الأولية المطلقة لسورة (العلق) تقدم على رواية جابر فرواية جابر إنما هي
لحدث متأخر عن رواية حراء.
وقيل
: أول ما نزل الفاتحة ، وروى ذلك من طريق أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الصوت انطلق هاربا ، وذكر نزول
الملك عليه ، وقوله قل : "الحمد لله رب العالمين"
إلى آخرها. وفي هذه الرواية أن خديجة رضي الله عنها قالت لأبي بكر اذهب مع
محمد إلى ورقة. فانطلقا فقصا عليه فقال : "إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي
يا محمد يا محمد فأنطلق هاربا في الأفق " فقال : لا تفعل إذا أتاك فاثبت
حتى تسمع ما يقول ثم أئتني فأخبرني ، فلما خلا ناداه : يا محمد قل "بسم
الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين حتى بلغ ولا الضالين" غير أن
هذا الحديث لا يصلح الاحتجاج به على أولية ما نزل مطلقا من وجهين :
الأول : أنه
لا يفهم من هذه الرواية أن الفاتحة كانت أول عهده بالوحي بل كانت بعد ذلك
وبعد أن أتى إلى ورقة بن نوفل وبعد أن سمع ذلك النداء غير مرة.
الثاني : أن هذا الحديث مرسل سقط من سنده الصحابي فلا يقوى على معارضة حديث عائشة رضي الله عنها.
غير
أن الإمام الزركشي يرى إمكان الجمع بين الروايات فبعدما نقل كلام القاضي
أبي بكر في "الانتصار" من أن هذا الخبر منقطع وأن أثبت الأقاويل "اقرأ"
ويليه في القوة " يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ" قال : "وطريق الجمع بين الأقاويل أن أول ما نزل من الآيات " اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" وأول ما نزل من أوامر التبليغ " يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ " وأول ما نزل من السور "سورة الفاتحة".
وقيل أول ما نزل ( الرحيم) واستدلوا بما أخرجه الواحدي بسنده عن عكرمة والحسن : قالا "أول ما نزل من القرآن ( الرحيم) وأول سورة (اقرأ).
يقول الشيخ الزرقاني "وهذا الاستدلال مردود من ناحيتين :
· إحداهما : أن الحديث مرسل فلا يناهض المرفوع.
· والثانية : أن البسملة تنزل صدرا لكل سورة إلا ما استثنى.
آخر ما نزل من القرآن
وبعد
أن تكلمنان عن أولية ما نزل من القرآن الكريم مطلقاً نتكلم عن آخر ما نزل
مطلقاً والذي يحكمنا في هذه القضية الروايات التي تحدد تاريخ آخر ما نزل
قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما جاء الخلاف بين العلماء في آخر
ما نزل مطلقاً من كون الآثار التي تناولت الموضوع ليس فيها حديث مرفوع إلى
النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا جانب من هذه الآراء مدعوم بدليل كل رأي :
الأول : أن آخر ما نزل قوله تعالى في سورة البقرة (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) (البقرة/281) .
وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها تسع ليال.
الثاني : أن آخر ما نزل آية الربا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (البقرة/278) [أخرجه البخاري عن ابن عباس].
الثالث : أن آخر ما نزل آية الدين من سورة البقرة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) (البقرة/282) [وأخرج ابن جرير عن سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن عهداً بالعرش آية الدين].
كما أخرج أبو عبيدة في الفضائل عن ابن شهاب قال : "آخر القرآن عهداً بالعرش آية الربا وآية الدين".
وقد جمع الإمام السيوطي (رحمه الله تعالى) بين هذه الأقوال الثلاثة بأن الظاهر أن هذه الآيات ([b]الربا ـ واتقوا يوما ـ والدين) نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف لأنها في قصة واحدة ، فأخبر كلٌ عن بعض ما نزل بأنه آخر ما نزل.
ويرجح الشيخ الزرقاني في المناهل أن آخر الثلاثة نزولا قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) وعلل ذلك بأمرين :
الأول : أن
ما تحمله هذه الآية في طياتها من الإشارة إلى ختام الوحي والدين بسبب ما
تحث عليه من الاستعداد ليوم المعاد وما تنوه به من الرجوع إلى الله تعالى.
الثاني : التنصيص في رواية ابن أبي حاتم السابقة على أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بعد نزولها تسع ليال فقط ، ولم تظفر آية أخرى بنص كهذا.
وهناك أقوال أخرى تتحدث عن آخر القرآن نزولاً غير أنه بعد دراستها تبين أنها آخرية مقيدة أو إضافية من ذلك مثلا.
· آية آل عمران : (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى) (آل عمران/195) وهذه آخرية تتعلق بما نزل بالإضافة إلى ما ذكر فيه النساء.
· ومن ذلك آية النساء : (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا) (النساء/93) وهي آخر ما نزل في حكم القتل العمد.
· ومن ذلك آية الكلالة في سورة النساء : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ) (النساء/176) وهي آخر ما نزل في المواريث.
· ومن ذلك سورة المائدة : وهذا القول مردود بأن المراد أنها آخر سورة نزلت في الحلال والحرام فلم تنسخ فيها أحكام.
وهذه الأقوال المؤيدة بالآثار التي لم نذكرها لعدم التطويل لا تعدو كونها اجتهاداً وغلبة ظن.
يقول القاضي أبو بكر في "الانتصار"
: "هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكلٌ قال
بضرب من الاجتهاد وغلبة الظن ، ويحتمل أن كلا منهم أخبر عن آخر ما سمعه من
النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه أو قبل مرضه بقليل ،
وغيره سمع منه بعد ذلك وإن لم يسمعه هو" أ.هـ.
ونخلص مما تقدم إلى أن أرجح الأقوال في أول ما نزل مطلقاً هو صدر سورة العلق وأن آخر ما نزل مطلقاً هو آية (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) لقرب من تاريخ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا والله أعلى وأعلم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
د. محمد عبداللطيف قدح