وقف الطفل خائفـاً يرتعد أمام الرجل وهو يقول ودموعه تغرق وجهة بالكامل: "أرجوك ساعدني.. لقد قتل والدتي وعمي.. أرجوك"..
*******
وبدأ اللغز
في مساء 21 أغسطس 1968 أخذت باربرا لوتشي Barbra Locci طفلها
الصغير إلى السينما ومعها صديقها أنتونيو لو بيانكو Antonio Lo Bianco..
لم يكن الطفل الصغير يعرف أن أنتونيو ليس مجرد صديق والدته.. بل هو
حبيبها.. بل هو أحد الرجال الكثيرين الذي تعرفهم باربرا؛ حتى عرفتها مدينة
فلورنسا كلها باسم ملكة النحل “Queen Bee”..
أثناء العودة من دار السينما كان الطفل نائماً في المقعد الخلفي للسيارة
عندما أدار أنتونيو المقود وانحراف بالسيارة إلى قرب المقابر ليقضي بعض
الوقت الحميم مع باربرا.. ورغم اعتراضات باربرا الضعيفة بحجة أن زوجها
سيقلق لغيابها.. إلا أنها سرعان ما أذعنت لرغبات أنتونيو..
توقفت السيارة وسط المقابر في الظلام الحالك وبدأت الضحكات الخافتة
تتعالى من داخلها عندما ظهر فجأة شبح أسود يقف أمام السيارة وأطلق النار
على باربرا وأنتونيو.. خلال لحظات قليلة كان الاثنان قد فارقا الحياة..
الغريب أن القاتل تقدّم بعد ذلك إلى السيارة، وذهب إلى المقعد الخلفي حيث
وجد الطفل الصغير المذعور فأخرجه من السيارة وأخذه إلى مكان بعيد عنها..
باربرا لوتشي و أنتونيو لو بيانكو
بعد عدة ساعات استيقظ مزارع قريب من المكان على صوت طرق على باب بيته..
كان الطفل الصغير هناك أمامه.. وقف الطفل خائفاً يرتعد أمام الرجل وهو
يقول ودموعه تغرق وجهه بالكامل: "أرجوكِ ساعدني.. لقد قتل والدتي وعمي..
أرجوك"..
بسرعة كان المزارع قد أبلغ الشرطة.. وخلال دقائق كانت الشرطة قد ملأت
المكان وبدأت تحرياتها التي ستفتح ملف واحد من أشهر سفاحي أوروبا على
الإطلاق..
وحش فلورنسا..
*******
المتهم
ستيفانو ميلي
أفلام السينما والقصص جعلتنا جميعاً نحس بأن القتلة المتسلسلين هم
صناعة أمريكية خالصة، وأنهم لا يتواجدون خارج بلاد العم سام المليئة
بالعنف غير المبرر.. لكن في الواقع فإن عدداً كبيراً من هؤلاء القتلة
عرفتهم أوروبا عبر تاريخها.. وبعضهم عرف في آسيا كذلك..
يعتبر وحش فلورنسا.. أحد أشهر هؤلاء الغامضين لعدة أسباب.. الأول هو
ظهوره في مدينة عرفت بالرومانسية والرقة والحب.. إنها فلورنسا الجميلة..
المدينة التي يهيم بها العشاق ليل نهار.. وفجأة يقتحم هذه الصورة الكاملة
قاتل مجهول..
السبب الثاني هو الغموض الكبير الذي أحاط بكل الجرائم التي قام بها هذا
الوحش.. الغموض الذي جعل الشرطة تحقق في هذه الجرائم لمدة 30 عاماً
كاملة!!..
السبب الثالث هو عدم وجود نمط واضح ومحدد لعمليات القتل.. حيث إن هذا
النمط هو الذي يساعد رجال الشرطة على التعرف على الخطوة التالية للقاتل،
وهي الخطوة التي ستؤدي إلى الإمساك به.. لكن في هذه الحالة فإن الجميع
كانوا يتخبطون في الظلام دون أن يعرفوا الاتجاه الصحيح..
ما وجدته الشرطة في مسرح الجريمة كان أقل من أن يذكر.. فلم تكن هناك
سوى بضع طلقات من عيار 22 أطلقت من مسسدس بيرتا.. لكن لا شهود.. لا
بصمات.. لا آثار..
حتى الطفل الصغير لم يتمكن من مشاهدة وجه الرجل الذي أطلق النار على
والدته ثم أخذه إلى أقرب مزرعة.. كانت كل الأمور تقود إلى نهايات مسدودة..
لذلك لم تجد الشرطة سوى أن تلهث وراء الدافع الوحيد المنطقي في مثل هذه
الحالات..
الغيرة..
ذهبت دورية شرطة إلى منزل ستيفانو ميلي Stefano Mele زوج باربرا.. حيث
وجده رجال الشرطة يحزم حقائبه.. وبسؤاله قال إن وراءه مهمة عمل عاجلة في
مدينة بعيدة.. كما أن رد الفعل الذي ظهر على ستيفانو لخبر قتل زوجته كان
أقل بكثير مما تتوقع رجال الشرطة.. كل هذا بالإضافة إلى سمعة الزوجة
الشهيرة في جميع أنحاء المدينة جعل رجال الشرطة يضعون سيتفانو على رأس
المشتبه بهم..
هكذا بدأت العجلة المعتادة في الدوران.. وأخذ رجال الشرطة ستيفانو معهم
للحصول على أقواله.. لكنه أنكر قيامه بالجريمة، وقال إنه في وقت الحادث
كان مع بعض أصدقائه في المنزل.. الغريب أن كل هؤلاء الأصدقاء كانوا من
عشاق باربرا زوجته.. بل إن أحد الذين قدم ستيفانو اسمهم كان القتيل
أنتونيو.. هل حصلت الشرطة على طرف الخيط الذي سيقودها إلى القاتل؟!..
*******
اعتراف
جثة باربرا من موقع الحادث
في صباح 23 أغسطس فاجأ سيتفانو الجميع باعترافه بأنه وسلفاتور فينسي
Salvatore Venci – أحد عشاق باربرا – قاما بقتل باربرا وأنتونيو.. حيث جاء
سلفاتور إليه وأخذ يشعل نار الغيرة والحمية بداخله، وأخبره أن أنتونيو
يقضي وقتاً حميماً مع زوجته في ذلك الوقت.. وكان مع سلفاتور مسدس صغير
أعطاه إلى ستيفانو.. بعد قليل خرج ستيفانو بالمسدس إلى السينما حيث تعقب
زوجته والحبيب إلى المقابر، وهناك قام بجريمته.. ثم عاد ستيفانو مع
سلفاتور إلى أحد الأنهار حيث ألقيا المسدس ثم عاد كل منهما إلى منزله..
في نهاية اعترافه قال ستيفانو: "قتلت زوجتي وعشيقها لأني مللت من
الإذلال بهذا الشكل المتواصل لقد كانت زوجتي تخونني لعدة سنوات.. ومنذ عدة
أشهر قررت أن أضع نهاية لهذا الوضع المُخجِل"..
كانت الأمور واضحة إلى حد كبير في الاعتراف.. خاصة مع وجود الدافع القوي.. لكن المشكلة كانت في وجود عدة نقاط صغيرة غامضة..
فعلى سبيل المثال لم يعرف ستيفانو كيف وصل طفله إلى تلك المزرعة.. كما أن
الشرطة لم تجد أي أثر لسلاح الجريمة في المكان الذي حدده ستيفانو.. مما
دفعه إلى تغيير أقواله، وقال أنه لم يلق بالمسدس في النهر بل إعادة إلى
سلفاتور مرة أخرى.. لكن أيضاً لم تجد الشرطة أثراً للمسدس عند سلفاتور
الذي أنكر معرفته بأي شيء عن الحادث.. وفي النهاية تراجع ستيفانو عن كل
أقواله السابقة وأقر بأنه لم يقم بالجريمة، وأتهم فرانشيسكو Francesco
الأخ غير الشقيق لسلفاتور – وأحد عشاق باربرا – بالقيام بالجريمة..
رغم كل شيء كانت العجلة تدور في الاتجاه المقدر.. الاعتراف والضغط
الشعبي والإعلامي والدوافع كانت كلها تصب ضد مصلحة ستيفانو؛ الذي وجدته
المحكمة مذنباً بعد محاكمة استغرقت عامين.. وحكم عليه بالسجن لمدة 14
عاماً بعد تخفيف الحكم لدواعي الجنون المؤقت..
أخيراً انتهى هذا الكابوس الذي أرق المدينة العائمة..
أو هذا ما كان يظنه الجميع..
*******
الجنون
باسكوالا جينتلكور و ستيفانيا بيتيني
ستة أعوام مرت منذ تلك الحادثة..
لم تستغرق المسألة أكثر من بضعة
أشهر بعدها نسي الجميع كل شيء عن الجريمة، وعادت فلورنسا الجميلة إلى
عهدها السابق لتستقبل الأحباب على ضفتيها..
كان اسم ستيفانو ميلي قد نسيه الجميع.. حتى بعد أن صدر الحكم بسجنه..
لم يكن أحد يتخيل أن الجنون سيعود إلى فلورنسا مرة أخرى..
في 14 سبتمبر 1974 ، وبعد أكثر من ستة أعوام على الجريمة الأولى..
اكتشف رجل -أثناء مروره بالصدفة- وجود سيارة على جانب الطريق وبها جثتان
لشاب وفتاة..
هرع رجال الشرطة إلى مكان الحادث حيث وجدوا جثة باسكوالا جينتلكور
Pasquala Gentilcore البالغ من العمر 19 عاماً وستيفانيا بيتيني Stefania
Pettini التي تبلغ 18 عاماً.. لكن المشكلة لم تكن في موت الاثنين.. بل
كانت في الطريقة التي وجدوا الجثتين عليها..
في المعقد الأمامي كانت جثة الشاب باسكوالا النصف عارية والذي
اخترقت جسده عدة رصاصات.. أما على المقعد الخلفي فقد كان الجنون بعينه..
جثة باسكوالا جينتلكور من موقع الحادث
كانت جثة الفتاة ستيفانيا عارية تماماً وذراعاها وأرجلها مفرودة في وضع
النسر المفرود الشهير الذي يعرفه كل أطباء التشريح.. وكان هناك عنقود عنب
مغروس أغلبه في أعضائها التناسلية.. لكن أكثر ما أثار ذعر رجال الشرطة
كانت الطعنات..
فرغم أن الفتاة قد استقبلت طلقتين من مسدس.. إلا أن ذلك لم يكن سبب
الوفاة.. بل كان السبب حوالي 96 طعنة في جميع أنحاء جسدها.. وبدا من شكل
الطعنات أن أغلبها تم والضحية مازالت حية وواعية!!..
كان ذلك أكثر مما يتحمله أي أحد.. كان يجب أن تجد الشرطة القاتل بأسرع وقت ممكن..
دارت الشبهات حول ثلاثة رجال.. أحدهم معالج خاص كان على علاقة بالفتاة
من قبل.. والثاني رجل مختل عقلياً جاء إلى الشرطة واعترف بأنه قام
بالجريمة دون أن يقدم أية تفاصيل منطقية.. أما الثالث فهو رجل شوهد في تلك
المنطقة أكثر من مرة وهو يتلصص على الشبان والفتيات..
لكن لم يكن هناك دليل واحد.. لا أثر.. لا بصمات.. لا شهود.. لا شيء..
هل يذكركم هذا الأمر بشيء ما؟!..
آه.. نسيت أن أخبركم بتفصيل صغير.. الطلقات المستخدمة في الجريمة كانت من عيار 22 وأطلقت من مسدس بيرتا..
يبدو أن الأمور ستتضح أخيراً.. أو ستزداد غموضا..
*******
المزيد والمزيد
جيوفاني فوجي و كارميلا دي نوتشيو
يونيو 1981..
سبعة أعوام أخرى كاملة مرت منذ تلك الحادثة الوحشية التي قُيِّدت ضد مجهول..
سبعة أعوام حاول فيها الكثيرون نسيان ما حدث والعودة إلى حياتهم الطبيعية.. وهو ما نجحوا فيه بالفعل..
لكن القاتل استقيظ من سباته الطويل مرة أخرى وقرر أن يجعل الجميع يتذكره..
وأقوى من أي وقت مضى..
على طريق جانبي غير مطروق وجد أحد رجال دوريات الشرطة سيارة متوقفه.. بالاقتراب منها اكتشف جثتي شاب وفتاة على جانبيها..
هكذا بدأت القصة مرة أخرى..
ملأ رجال الشرطة المكان في لحظات قصيرة وهم ينظرون إلى المنظر الرهيب الذي كان أمامهم..
كان الشاب جيوفاني فوجي Giovanni Voggi على الجانب الأيمن للسيارة وقد
اخترقت جسده عدة طلقات من عيار 22 من مسدس بيرتا وجسده يمتلئ بعدد لا يحصى
من الطعنات.. على الجانب الآخر كانت جثة الفتاة كارميلا دي نوتشيو Carmela
De Naccio عارية وبها نفس الطلقات والطعنات.. كان من الواضح أن الطعنات قد
بدأت في الجسدين قبل أن تنتهي منهما الحياة..
لكن لم يكن ذلك كل شيء..
المثير للغثيان والاشمئزاز كان التشويه الذي تم في جسد الفتاة.. حيث
قام القاتل باستئصال أعضائها التناسلية بأداة حادة وهو ما ذكر الجميع
بأشهر القتلة المتسلسين في التاريخ..
جاك السفاح..
وكما هو الحال في كل مرة.. لا بصمات.. لا أثار.. لا شهود.. لا شيء على الإطلاق..
وخرجت عناوين الصحف في الأيام التالية وهي تحذر من عودة شبح جاك السفاح في مدينة فلورنسا الإيطالية ليخلصها من آثامها..
وانتشر الذعر الرهيب بين السكان؛ حتى تحولت فلورنسا إلى مدينة أشباح..
أما بالنسبة لرجال الشرطة فلم يجدوا سوى شخص أسمه إنزو سباليتي Enzo
Spalliti لتوجيه الاتهامات إليه بعد أن شوهد بالقرب من مكان الحادث وفي
وقت قريب منه.. ساعد على ذلك عدم قدرة إنزو على تقديم دليل غياب مقنع،
وكذلك حقيقة أنه حكى لزوجته عن حادث قتل راح ضحيته شاب وفتاة بشكل بشع،
وقال إنه قرأ الحادث في الجريدة، مع أن الجرائد المسائية في ذلك اليوم لم
تذكر شيئاً عن الحادث..
ربما استطاعت الشرطة أخيراً التوصل إلى القاتل المجنون..
*******
وهكذا أصبحوا ثمانية
هذه المرة لم يَطُل الانتظار..
فقط أربعة أشهر ونصف قبل الضربة التالية..
في 23 أكتوبر 1981 وجد شابّان جثتي شاب وفتاة بالقرب من سيارة فولكس..
كان ستيفانو بالدي Stefano Baldi البالغ 26 عاماً وسوزانا كامبي
Suzanna Cambi البالغة 24 عاماً يحلمان بقضاء وقت ممتع معا عندما خرج لهما
شبح من بين الأشجار قضى عليهما في لحظات..
مرة أخرى تظهر
نفس أوصاف الجريمة.. جثة الشاب نصف العارية المليئة بالطلقات والطعنات..
ثم جثة الفتاة العارية المليئة أيضاً بالطلقات والطعنات والتي زاد عليها
التشويه بانتزاع الأعضاء التناسلية..
جثة سوزانا كامبي من موقع الحادث
كان الواضح أن القاتل يزداد خبرة مع مرور الأيام والجرائم.. فهذه المرة
استطاع انتزاع الأعضاء التناسلية مع جزء من جدار البطن وجزء من الأمعاء
بشكل وحشي، لكنه محترف في نفس الوقت..
لا داعى للقول بالطبع
أن الشرطة لم تجد دليلاً واحداً يقودها إلى أي اتجاه.. كل ما استطاعت فعله
هو إطلاق سراح إنزو سباليتي الذي لم يكن بإمكانه القيام بالجريمة لأنه كان
وراء القضبان في ذلك الوقت..
إن الجنون يستمر وينمو مع كل يوم يمر.. وانزوى سكان فلورنسا في منازلهم
وراء الأبوب المغلقة.. وخرجت الصحف بعناوين أدت إلى انتشار الذعر أكثر بين
السكان..
إلى متى ستستمر الأمور على هذا الشكل؟!..
*******
البقية في الحلقة القادمة